فصل: الآية رقم ‏(‏ 25 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 25 ‏)‏

‏{‏لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏لقد نصركم الله في مواطن كثيرة‏}‏ لما بلغ هوازن فتح مكة جمعهم مالك بن عوف النصري من بنى نصر بن مالك، وكانت الرياسة في جميع العسكر إليه، وساق مع الكفار أموالهم ومواشيهم ونساءهم وأولادهم، وزعم أن ذلك يحمي به نفوسهم وتشتد في القتال عند ذلك شوكتهم‏.‏ وكانوا ثمانية آلاف في قول الحسن ومجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ أربعة آلاف، من هوازن وثقيف‏.‏ وعلى هوازن مالك بن عوف، وعلى ثقيف كنانة بن عبد، فنزلوا بأوطاس‏.‏ وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن أبي حدرد الأسلمي عينا، فأتاه وأخبره بما شاهد منهم، فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قصدهم، واستعار من صفوان بن أمية بن خلف الجمحي دروعا‏.‏ قيل‏:‏ مائة درع‏.‏ وقيل‏:‏ أربعمائة درع‏.‏ واستسلف من ربيعة المخزومي ثلاثين ألفا أو أربعين ألفا، فلما قدم قضاه إياها‏.‏ ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بارك الله لك في أهلك ومالك إنما جزاء السلف الوفاء والحمد‏)‏ خرجه ابن ماجة في السنن‏.‏ وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا من المسلمين، منهم عشرة آلاف صحبوه من المدينة وألفان من مسلمة الفتح وهم الطلقاء إلى من انضاف إليه من الأعراب من سُليم وبني كلاب وعبس وذبيان‏.‏ واستعمل على مكة عتاب بن أسيد‏.‏ وفي مخرجه هذا رأى جهال الأعراب شجرة خضراء وكان لهم في الجاهلية شجرة معروفة تسمى ذات أنواط يخرج إليها الكفار يوما معلوما في السنة يعظمونها، فقالوا‏:‏ يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏الله أكبر قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى ‏}‏اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون‏}‏ لتركبن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة حتى أنهم لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه‏)‏‏.‏ فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى وادي حنين، وهو من أودية تهامة، وكانت هوازن قد كمنت في جنبتي الوادي وذلك في غبش الصبح فحملت على المسلمين حملة رجل واحد، فانهزم جمهور المسلمين ولم يلو أحد على أحد، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت معه أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب وابنه جعفر، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد وهو أيمن بن أم أيمن قتل يومئذ بحنين - وربيعة بن الحارث، والفضل بن عباس، وقيل في موضع جعفر بن أبي سفيان‏:‏ قثم بن العباس‏.‏ فهؤلاء عشرة رجال، ولهذا قال العباس‏:‏

نصرنا رسول الله في الحرب تسعة وقد فر من قد فر عنه وأقشعوا

وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه بما مسه في الله لا يتوجع

وثبتت أم سليم في جملة من ثبت محتزمة ممسكة بعيرا لأبي طلحة وفي يدها خنجر‏.‏ ولم ينهزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من هؤلاء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته الشهباء واسمها دلدل‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أنس قال عباس‏:‏ وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة ألا تسرع وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أي عباس ناد أصحاب السمرة‏)‏‏.‏ فقال عباس - وكان رجلا صيتا‏.‏ ويروى من شدة صوته أنه أغير يوما على مكة فنادى واصباحاه فأسقطت كل حامل سمعت صوته جنينها - ‏:‏ فقلت بأعلى صوتي‏:‏ أين أصحاب السمرة‏؟‏ قال‏:‏ فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها‏.‏ فقالوا‏:‏ يا لبيك يا لبيك‏.‏ قال‏:‏ فاقتتلوا والكفار‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ وفيه‏:‏ ‏(‏قال ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار‏)‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏انهزموا ورب محمد‏)‏‏.‏ قال فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى‏.‏ قال‏:‏ فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ روينا من وجوه عن بعض من أسلم من المشركين ممن شهد حنينا أنه قال - وقد سئل عن يوم حنين - ‏:‏ لقينا المسلمين فما لبثنا أن هزمناهم وأتبعناهم حتى انتهينا إلى رجل راكب على بغلة بيضاء، فلما رآنا زجرنا زجرة وانتهرنا، وأخذ بكفه حصى وترابا فرمى به وقال‏:‏ ‏(‏شاهت الوجوه‏)‏ فلم تبق عين إلا دخلها من ذلك، وما ملكنا أنفسنا أن رجعنا على أعقابنا‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ حدثنا رجل من المشركين، يوم حنين قال‏:‏ لما التقينا مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقفوا لنا حلب شاة، حتى إذا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - تلقانا رجال بيض الوجوه حسان، فقالوا لنا‏:‏ شاهت الوجوه، ارجعوا، فرجعنا وركبوا أكتافنا فكانت إياها‏.‏ يعني الملائكة‏.‏

قلت‏:‏ ولا تعارض فإنه يحتمل أن يكون شاهت الوجوه من قوله صلى الله عليه وسلم ومن قول الملائكة معا ويدل على أن الملائكة قاتلت يوم حنين‏.‏ فالله أعلم‏.‏ وقتل علي رضي الله عنه يوم حنين أربعين رجلا بيده‏.‏ وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف رأس‏.‏ وقيل‏:‏ ستة آلاف، واثني عشر ألف ناق سوى ما لا يعلم من الغنائم‏.‏

قال العلماء في هذه الغزاة‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه‏)‏‏.‏ وقد مضى في ‏}‏الأنفال‏}‏ بيانه‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ ولهذه النكتة وغيرها أدخل الأحكاميون هذه الآية في الأحكام‏.‏

قلت‏:‏ وفيه أيضا جواز استعارة السلاح وجواز الاستمتاع بما استعير إذا كان على المعهود مما يستعار له مثله، وجواز استلاف الإمام المال عند الحاجة إلى ذلك ورده إلى صاحبه‏.‏ وحديث صفوان أصل في هذا الباب‏.‏ وفي هذه الغزاة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏ألا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض حيضة‏)‏‏.‏ وهو يدل على أن السبي يقطع العصمة‏.‏ وقد مضى بيانه في سورة ‏}‏النساء‏}‏ مستوفى‏.‏ وفي حديث مالك أن صفوان خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كافر، فشهد حنينا والطائف وامرأته مسلمة‏.‏ الحديث‏.‏ قال مالك‏:‏ ولم يكن ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أرى أن يستعان بالمشركين على المشركين إلا أن يكونوا خدما أو نواتية‏.‏ وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي‏:‏ لا بأس بذلك إذا كان حكم الإسلام هو الغالب، وإنما تكره الاستعانة بهم إذا كان حكم الشرك هو الظاهر‏.‏ وقد مضى القول في الإسهام لهم في ‏}‏الأنفال‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويوم حنين‏}‏ حنين واد بين مكة والطائف، وانصرف لأنه اسم مذكر، وهي لغة القرآن‏.‏ ومن العرب من لا يصرفه، يجعله اسما للبقعة‏.‏ وأنشد‏:‏

نصروا نبيهم وشدوا أزره بحنين يوم تواكل الأبطال

‏{‏ويوم‏}‏ ظرف، وانتصب هنا على معنى‏:‏ ونصركم يوم حنين‏.‏ وقال الفراء‏:‏ لم تنصرف ‏}‏مواطن‏}‏ لأنه ليس لها نظير في المفرد وليس لها جماع، إلا أن الشاعر ربما اضطر فجمع، وليس يجوز في الكلام كل ما يجوز في الشعر‏.‏ وأنشد‏:‏

فهن يعلكن حدائداتها

وقال النحاس‏:‏ رأيت أبا إسحاق يتعجب من هذا قال‏:‏ أخذ قول الخليل وأخطأ فيه، لأن الخليل يقول فيه‏:‏ لم ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الواحد، ولا يجمع جمع التكسير، وأما بالألف والتاء فلا يمتنع‏.‏

قوله تعالى‏{‏إذ أعجبتكم كثرتكم‏}‏ قيل‏:‏ كانوا اثني عشر ألفا‏.‏ وقيل‏:‏ أحد عشر ألفا وخمسمائة‏.‏ وقيل‏:‏ ستة عشر ألفا‏.‏ فقال بعضهم‏:‏ لن نغلب اليوم عن قلة‏.‏ فوكلوا إلى هذه الكلمة، فكان ما ذكرناه من الهزيمة في الابتداء إلى أن تراجعوا، فكان النصر والظفر للمسلمين ببركة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم‏.‏ فبين الله عز وجل في هذه الآية أن الغلبة إنما تكون بنصر الله لا بالكثرة وقد قال‏{‏وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده‏}‏آل عمران‏:‏ 160‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏وضاقت عليكم الأرض بما رحبت‏}‏ أي من الخوف، كما قال‏:‏

كأن بلاد الله وهي عريضة على الخائف المطلوب كفة حابل

والرحب - بضم الراء - السعة‏.‏ تقول منه‏:‏ فلان رحب الصدر‏.‏ والرحب - بالفتح - ‏:‏ الواسع‏.‏ تقول منه‏:‏ بلد رحب، وأرض رحبة‏.‏ وقد رحبت ترحب رحبا ورحابة‏.‏ وقيل‏:‏ الباء بمعنى مع أي مع رحبها‏.‏ وقيل‏:‏ بمعنى على، أي على رحبها‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى برحبها، فـ ‏}‏ما‏}‏ مصدرية‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم وليتم مدبرين‏}‏ روى مسلم عن أبي إسحاق قال‏:‏ جاء رجل إلى البراء فقال‏:‏ أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة‏.‏ فقال‏:‏ أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى، ولكنه انطلق أخِفّاءُ من الناس، وحسر إلى هذا الحي من هوازن‏.‏ وهم قوم رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول‏:‏ ‏(‏أنا النبي لا كذب‏.‏ أنا ابن عبدالمطلب‏.‏ اللهم نزل نصرك‏)‏‏.‏ قال البراء‏:‏ كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 26 ‏:‏ 27 ‏)‏

‏{‏ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين، ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين‏}‏ أي أنزل عليهم ما يسكنهم ويذهب خوفهم، حتى اجترؤوا على قتال المشركين بعد أن ولوا‏.‏ ‏}‏وأنزل جنودا لم تروها‏}‏ وهم الملائكة، يقوون المؤمنين بما يلقون في قلوبهم من الخواطر والتثبيت، ويضعفون الكافرين بالتجبين لهم من حيث لا يرونهم ومن غير قتال، لأن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر‏.‏ وروي أن رجلا من بني نصر قال للمؤمنين بعد القتال‏:‏ أين الخيل البلق، والرجال الذين كانوا عليها بيض، ما كنا فيهم إلا كهيئة الشامة، وما كان قتلنا إلا بأيديهم‏.‏ أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال‏:‏ ‏(‏تلك الملائكة‏)‏‏.‏ ‏}‏وعذب الذين كفروا‏}‏ أي بأسيافكم‏.‏ ‏}‏وذلك جزاء الكافرين، ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء‏}‏ أي على من انهزم فيهديه إلى الإسلام‏.‏ كمالك بن عوف النصري رئيس حنين ومن أسلم معه من قومه‏.‏

ولما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم حنين بالجعرانة، أتاه وفد هوازن مسلمين راغبين في العطف عليهم والإحسان إليهم، وقالوا‏:‏ يا رسول الله، إنك خير الناس وأبر الناس، وقد أخذت أبناءنا ونساءنا وأموالنا‏.‏ فقال لهم‏:‏ ‏(‏إني قد كنت استأنيت بكم وقد وقعت المقاسم وعندي من ترون وإن خير القول أصدقه فاختاروا إما ذراريكم وإما أموالكم‏)‏‏.‏ فقالوا‏:‏ لا نعدل بالأنساب شيئا‏.‏ فقام خطيبا وقال‏:‏ ‏(‏هؤلاء جاؤونا مسلمين وقد خيرناهم فلم يعدلوا بالأنساب فرضوا برد الذرية وما كان لي ولبني عبدالمطلب وبني هاشم فهو لهم‏)‏‏.‏ وقال المهاجرون والأنصار‏:‏ أما ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وامتنع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن في قومهما من أن يردوا عليهم شيئا مما وقع لهم في سهامهم‏.‏ وامتنع العباس بن مرداس السلمي كذلك، وطمع أن يساعده قومه كما ساعد الأقرع وعيينة قومهما‏.‏ فأبت بنو سليم وقالوا‏:‏ بل ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من ضن منكم بما في يديه فإنا نعوضه منه‏)‏‏.‏ فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وأولادهم، وعوض من لم تطب نفسه بترك نصيبه أعواضا رضوا بها‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن ظئر النبي صلى الله عليه وسلم التي أرضعته من بني سعد أتته يوم حنين فسألته سبايا حنين فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إني لا أملك إلا ما يصيبني منهم ولكن ايتيني غدا فاسأليني والناس عندي فإذا أعطيتك حصتي أعطاك الناس‏)‏‏.‏ فجاءت الغد فبسط لها ثوبه فأقعدها عليه‏.‏ ثم سألته فأعطاها نصيبه فلما رأى ذلك الناس أعطوها أنصباءهم‏.‏ وكان عدد سبي هوازن في قول سعيد بن المسيب ستة آلاف رأس‏.‏ وقيل‏:‏ أربعة آلاف‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ فيهن الشيماء أخت النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وهي بنت الحارث بن عبدالعزى من بنى سعد بن بكر وبنت حليمة السعدية، فأكرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاها وأحسن إليها، ورجعت مسرورة إلى بلادها بدينها وبما أفاء الله عليها‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أوطاس امرأة تعدو وتصيح ولا تستقر، فسأل عنها فقيل‏:‏ فقدت بنيا لها‏.‏ ثم رآها وقد وجدت ابنها وهي تقبله وتدنيه، فدعاها وقال لأصحابه‏:‏ ‏(‏أطارحة هذه ولدها في النار‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏لم‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ لشفقتها‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏الله أرحم بكم منها‏)‏‏.‏ وخرجه مسلم بمعناه والحمد لله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 28 ‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس‏}‏ ابتداء وخبر‏.‏ واختلف العلماء في معنى وصف المشرك بالنجس، فقال قتادة ومعمر بن راشد وغيرهما‏:‏ لأنه جنب إذ غسله من الجنابة ليس بغسل‏.‏ وقال ابن عباس وغيره‏:‏ بل معنى الشرك هو الذي نجسه‏.‏ قال الحسن البصري من صافح مشركا فليتوضأ‏.‏ والمذهب كله على إيجاب الغسل على الكافر إذا أسلم إلا ابن عبدالحكم فإنه قال‏:‏ ليس بواجب، لأن الإسلام يهدم ما كان قبله‏.‏ وبوجوب الغسل عليه قال أبو ثور وأحمد‏.‏ وأسقطه الشافعي وقال‏:‏ أحب إلي أن يغتسل‏.‏ ونحوه لابن القاسم‏.‏ ولمالك قول‏:‏ إنه لا يعرف الغسل، رواه عنه ابن وهب وابن أبي أويس‏.‏ وحديث ثمامة وقيس بن عاصم يرد هذه الأقوال‏.‏ رواهما أبو حاتم البستي في صحيح مسنده‏.‏ وأن النبي صلى الله عليه وسلم مر بثمامة يوما فأسلم فبعث به إلى حائط أبي طلحة فأمره أن يغتسل، فاغتسل وصلى ركعتين‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لقد حسن إسلام صاحبكم‏)‏ وأخرجه مسلم بمعناه‏.‏ وفيه‏:‏ أن ثمامة لما من عليه النبي صلى الله عليه وسلم انطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل‏.‏ وأمر قيس بن عاصم أن يغتسل بماء وسدر‏.‏ فإن كان إسلامه قبيل احتلامه فغسله مستحب‏.‏ ومتى أسلم بعد بلوغه لزمه أن ينوي بغسله الجنابة‏.‏ هذا قول علمائنا، وهو تحصيل المذهب‏.‏ وقد أجاز ابن القاسم للكافر أن يغتسل قبل إظهاره للشهادة بلسانه إذا اعتقد الإسلام بقلبه وهو قول ضعيف في النظر مخالف للأثر‏.‏ وذلك أن أحدا لا يكون بالنية مسلما دون القول‏.‏ هذا قول جماعة أهل السنة في الإيمان‏:‏ إنه قول باللسان وتصديق بالقلب، ويزكو بالعمل‏.‏ قال الله تعالى‏{‏إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه‏}‏فاطر‏:‏ 10‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏فلا يقربوا المسجد الحرام‏}‏ ‏}‏فلا يقربوا‏}‏ نهي، ولذلك حذفت منه النون‏.‏ ‏}‏المسجد الحرام‏}‏ هذا اللفظ يطلق على جميع الحرم، وهو مذهب عطاء فإذا يحرم تمكين المشرك من دخول الحرم أجمع‏.‏ فإذا جاءنا رسول منهم خرج الإمام إلى الحل ليسمع ما يقول‏.‏ ولو دخل مشرك الحرم مستورا ومات نبش قبره وأخرجت عظامه‏.‏ فليس لهم الاستيطان ولا الاجتياز‏.‏ وأما جزيرة العرب، وهي مكة والمدينة واليمامة واليمن ومخاليفها، فقال مالك‏:‏ يخرج من هذه المواضع كل من كان على غير الإسلام، ولا يمنعون من التردد بها مسافرين‏.‏ وكذلك قال الشافعي رحمه الله، غير أنه استثنى من ذلك اليمن‏.‏ ويضرب لهم أجل ثلاثة أيام كما ضربه لهم عمر رضي الله عنه حين أجلاهم‏.‏ ولا يدفنون فيها ويلجؤون إلى الحل‏.‏

واختلف العلماء في دخول الكفار المساجد والمسجد الحرام على خمسة أقوال، فقال أهل المدينة الآية عامة في سائر المشركين وسائر المساجد‏.‏ وبذلك كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عماله ونزع في كتابه بهذه الآية‏.‏ ويؤيد ذلك قوله تعالى‏{‏في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه‏}‏النور‏:‏ 36‏]‏‏.‏ ودخول الكفار فيها مناقض لترفيعها‏.‏ وفي صحيح مسلم وغيره‏:‏ ‏(‏إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والقذر‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ والكافر لا يخلو عن ذلك‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب‏)‏ والكافر جنب وقوله تعالى‏{‏إنما المشركون نجس‏}‏ فسماه الله تعالى نجسا‏.‏ فلا يخلو أن يكون نجس العين أو مبعدا من طريق الحكم‏.‏ وأي ذلك كان فمنعه من المسجد واجب لأن العلة وهي النجاسة موجودة فيهم، والحرمة موجودة في المسجد‏.‏ يقال‏:‏ رجل نجس، وامرأة نجس، ورجلان نجس، وامرأتان نجس، ورجال نجس، ونساء نجس، لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر‏.‏ فأما النجس - بكسر النون وجزم الجيم - فلا يقال إلا إذا قيل معه رجس‏.‏ فإذا أفرد قيل نجس - بفتح النون وكسر الجيم - ونجس - بضم الجيم - ‏.‏ وقال الشافعي رحمه الله‏:‏ الآية عامة في سائر المشركين، خاصة في المسجد الحرام، ولا يمنعون من دخول غيره، فأباح دخول اليهودي والنصراني في سائر المساجد‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا جمود منه على الظاهر، لأن قوله عز وجل‏{‏إنما المشركون نجس‏}‏ تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة‏.‏ فإن قيل‏:‏ فقد ربط النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة في المسجد وهو مشرك‏.‏ قيل له‏:‏ أجاب علماؤنا عن هذا الحديث - وإن كان صحيحا - بأجوبة‏:‏ أحدها‏:‏ أنه كان متقدما على نزول الآية‏.‏ الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد علم بإسلامه فلذلك ربطه‏.‏ الثالث أن ذلك قضية في عين فلا ينبغي أن تدفع بها الأدلة التي ذكرناها، لكونها مقيدة حكم القاعدة الكلية‏.‏ وقد يمكن أن يقال‏:‏ إنما ربطه في المسجد لينظر حسن صلاة المسلمين واجتماعهم عليها، وحسن آدابهم في جلوسهم في المسجد، فيستأنس بذلك ويسلم، وكذلك كان‏.‏ ويمكن أن يقال‏:‏ إنهم لم يكن لهم موضع يربطونه فيه إلا في المسجد، والله أعلم‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ لا يمنع اليهود والنصارى من دخول المسجد الحرام ولا غيره، ولا يمنع دخول المسجد الحرام إلا المشركون وأهل الأوثان‏.‏ وهذا قول يرده كل ما ذكرناه من الآية وغيرها‏.‏ قال الكيا الطبري‏:‏ ويجوز للذمي دخول سائر المساجد عند أبي حنيفة من غير حاجة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ تعتبر الحاجة، ومع الحاجة لا يجوز دخول المسجد الحرام‏.‏ وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ الحرم كله قبلة ومسجد، فينبغي أن يمنعوا من دخول الحرم، لقوله تعالى‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام‏}‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وإنما رفع من بيت أم هانئ‏.‏ وقال قتادة‏:‏ لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب جزية أو عبدا كافرا لمسلم‏.‏ وروى إسماعيل بن إسحاق حدثنا يحيى بن عبدالحميد قال حدثنا شريك عن أشعث عن الحسن عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يقرب المسجد مشرك إلا أن يكون عبدا أو أمة فيدخله لحاجة‏)‏‏.‏ وبهذا قال جابر بن عبدالله فإنه قال‏:‏ العموم يمنع المشرك عن قربان المسجد الحرام، وهو مخصوص في العبد والأمة‏.‏

قوله تعالى‏{‏بعد عامهم هذا‏}‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما - أنه سنة تسع التي حج فيها أبو بكر‏.‏ الثاني سنة عشر قاله قتادة‏.‏ ابن العربي‏:‏ وهو الصحيح الذي يعطيه مقتضى اللفظ وإن من العجب أن يقال‏:‏ إنه سنة تسع وهو العام الذي وقع فيه الأذان‏.‏ ولو دخل غلام رجل داره يوما فقال له مولاه‏:‏ لا تدخل هذه الدار بعد يومك لم يكن المراد اليوم الذي دخل فيه‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن خفتم عيلة‏}‏ قال عمرو بن فائد‏:‏ المعنى وإذ خفتم‏.‏ وهذه عجمة، والمعنى بارع بـ ‏}‏إن‏}‏‏.‏ وكان المسلمون لما منعوا المشركين من الموسم وهم كانوا يجلبون الأطعمة والتجارات، قذف الشيطان في قلوبهم الخوف من الفقر وقالوا‏:‏ من أين نعيش‏.‏ فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله‏.‏ قال الضحاك‏:‏ ففتح الله عليهم باب الجزية من أهل الذمة بقوله عز وجل‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر‏}‏التوبة‏:‏ 29‏]‏ الآية‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ أغناهم الله بإدرار المطر والنبات وخصب الأرض فأخصبت تبالة وجرش وحملوا إلى مكة الطعام والودك وكثر الخير وأسلمت العرب‏:‏ أهل نجد وصنعاء وغيرهم فتمادى حجهم وتجرهم وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الأمم‏.‏ والعيلة‏:‏ الفقر‏.‏ يقال‏:‏ عال الرجل يعيل إذا افتقر‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل

وقرأ علقمة وغيره من أصحاب ابن مسعود ‏}‏عائلة‏}‏ وهو مصدر كالقائلة من قال يقيل‏.‏ وكالعافية‏.‏ ويحتمل أن يكون نعتا لمحذوف تقديره‏:‏ حالا عائلة، ومعناه خصلة شاقة‏.‏ يقال منه‏:‏ عالني الأمر يعولني‏:‏ أي شق علي واشتد‏.‏ وحكى الطبري أنه يقال‏:‏ عال يعول إذا افتقر‏.‏

في هذه الآية دليل على أن تعلق القلب بالأسباب في الرزق جائز وليس ذلك بمناف للتوكل وإن كان الرزق مقدرا وأمر الله وقسمه مفعولا ولكنه علقه بالأسباب حكمة ليعلم القلوب التي تتعلق بالأسباب من القلوب التي تتوكل على رب الأرباب‏.‏ وقد تقدم أن السبب لا ينافي التوكل قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا‏)‏‏.‏ أخرجه البخاري‏.‏ فأخبر أن التوكل الحقيقي لا يضاده الغدو والرواح في طلب الرزق‏.‏ ابن العربي‏:‏ ولكن شيوخ الصوفية قالوا‏:‏ إنما يغدو ويروح في الطاعات فهو السبب الذي يجلب الرزق‏.‏ قالوا‏:‏ والدليل عليه أمران‏:‏ أحدهما‏:‏ قوله تعالى‏{‏وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك‏}‏طه‏:‏ 132‏]‏ الثاني‏:‏ قوله تعالى‏{‏إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح برفعه‏}‏فاطر‏:‏ 10‏]‏ فليس ينزل الرزق من محله، وهو السماء، إلا ما يصعد وهو الذكر الطيب والعمل الصالح وليس بالسعي في الأرض فإنه ليس فيها رزق‏.‏ والصحيح ما أحكمته السنة عند فقهاء الظاهر وهو العمل بالأسباب الدنيوية من الحرث والتجارة في الأسواق والعمارة للأموال وغرس الثمار‏.‏ وقد كانت الصحابة تفعل ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم‏.‏ قال أبو الحسن بن بطال‏:‏ أمر الله سبحانه عباده بالإنفاق من طيبات ما كسبوا إلى غير ذلك من الآي‏.‏ وقال‏{‏فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه‏}‏البقرة‏:‏ 173‏]‏‏.‏ فأحل للمضطر ما كان حرم عليه عند عدمه للغذاء الذي أمره باكتسابه والاغتذاء به، ولم يأمره بانتظار طعام ينزل عليه من السماء، ولو ترك السعي في ترك ما يتغذى به لكان لنفسه قاتلا‏.‏ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوى من الجوع ما يجد ما يأكله، ولم ينزل عليه طعام من السماء، وكان يدخر لأهله قوت سنته حتى فتح الله عليه الفتوح‏.‏ وقد روى أنس بن مالك أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم ببعير فقال‏:‏ يا رسول الله، أعقله وأتوكل أو أطلقه وأتوكل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏اعقله وتوكل‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ ولا حجة لهم في أهل الصفة، فإنهم كانوا فقراء يقعدون في المسجد ما يحرثون ولا يتجرون، ليس لهم كسب ولا مال، إنما هم أضياف الإسلام عند ضيق البلدان، ومع ذلك فإنهم كانوا يحتطبون بالنهار ويسرقون الماء إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقرؤون القرآن بالليل ويصلون‏.‏ هكذا وصفهم البخاري وغيره‏.‏ فكانوا يتسببون‏.‏ وكان صلى الله عليه وسلم إذا جاءته هدية أكلها معهم، وإن كانت صدقة خصهم بها، فلما كثر الفتح وانتشر الإسلام خرجوا وتأمروا - كأبي هريرة وغيره - وما قعدوا‏.‏ ثم قيل‏:‏  الأسباب التي يطلب بها الرزق ستة أنواع‏:‏

أعلاها‏:‏ كسب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏(‏جعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري‏)‏‏.‏ خرجه الترمذي وصححه‏.‏ فجعل الله رزق نبيه صلى الله عليه وسلم في كسبه لفضله، وخصه بأفضل أنواع الكسب، وهو أخذ الغلبة والقهر لشرفه‏.‏

الثاني‏:‏ أكل الرجل من عمل يده، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أطيب ما أكل الرجل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده‏)‏ خرجه البخاري‏.‏ وفي التنزيل ‏}‏وعلمناه صنعة لبوس لكم‏}‏الأنبياء‏:‏ 80‏]‏، وروي أن عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه‏.‏

الثالث‏:‏ التجارة، وهي كانت عمل جل الصحابة رضوان الله عليهم، وخاصة المهاجرين، وقد دل عليها التنزيل في غير موضع‏.‏

الرابع‏:‏ الحرث والغرس‏.‏ وقد بيناه في سورة ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏

الخامس‏:‏ إقراء القرآن وتعليمه والرقية، وقد مضى في الفاتحة

السادس‏:‏ يأخذ بنية الأداء إذا احتاج، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله‏)‏‏.‏ خرجه البخاري‏.‏ رواه أبو هريرة رضي الله عنه‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن شاء‏}‏ دليل على أن الرزق ليس بالاجتهاد، وإنما هو من فضل الله تولى قسمته بين عباده وذلك بين في قوله تعالى‏{‏نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا‏}‏الزخرف‏:‏ 32‏]‏ الآية‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 29 ‏)‏

‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر‏}‏ لما حرم الله تعالى على الكفار أن يقربوا المسجد الحرام، وجد المسلمون في أنفسهم بما قطع عنهم من التجارة التي كان المشركون يوافون بها، قال الله عز وجل‏{‏وإن خفتم عيلة‏}‏التوبة‏:‏28‏]‏ الآية‏.‏ على ما تقدم‏.‏ ثم أحل في هذه الآية الجزية وكانت لم تؤخذ قبل ذلك، فجعلها عوضا مما منعهم من موافاة المشركين بتجارتهم‏.‏ فقال الله عز وجل‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر‏}‏ الآية‏.‏ فأمر سبحانه وتعالى بمقاتلة جميع الكفار لإصفاقهم على هذا الوصف، وخص أهل الكتاب بالذكر إكراما لكتابهم، ولكونهم عالمين بالتوحيد والرسل والشرائع والملل، وخصوصا ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وملته وأمته‏.‏ فلما أنكروه تأكدت عليهم الحجة وعظمت منهم الجريمة، فنبه على محلهم ثم جعل للقتال غاية وهي إعطاء الجزية بدلا عن القتل‏.‏ وهو الصحيح‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ سمعت أبا الوفاء علي بن عقيل في مجلس النظر يتلوها ويحتج بها‏.‏ فقال‏{‏قاتلوا‏}‏ وذلك أمر بالعقوبة‏.‏ ثم قال‏{‏الذين لا يؤمنون‏}‏ وذلك بيان للذنب الذي أوجب العقوبة‏.‏ وقوله‏{‏ولا باليوم الآخر‏}‏ تأكيد للذنب في جانب الاعتقاد‏.‏ ثم قال‏{‏ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله‏}‏ زيادة للذنب في مخالفة الأعمال‏.‏ ثم قال‏{‏ولا يدينون دين الحق‏}‏ إشارة إلى تأكيد المعصية بالانحراف والمعاندة والأنفة عن الاستسلام‏.‏ ثم قال‏{‏من الذين أوتوا الكتاب‏}‏ تأكيد للحجة، لأنهم كانوا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل‏.‏ ثم قال‏{‏حتى يعطوا الجزية عن يد‏}‏ فبين الغاية التي تمتد إليها العقوبة وعين البدل الذي ترتفع به‏.‏

وقد اختلف العلماء فيمن تؤخذ منه الجزية، قال الشافعي رحمه الله‏:‏ لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب خاصة عربا كانوا أو عجما لهذه الآية، فإنهم هم الذين خصوا بالذكر فتوجه الحكم إليهم دون من سواهم لقوله عز وجل‏{‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏التوبة‏:‏5‏]‏‏.‏ ولم يقل‏:‏ حتى يعطوا الجزية كما قال في أهل الكتاب‏.‏ وقال‏:‏ وتقبل من المجوس بالسنة وبه قال أحمد وأبو ثور‏.‏ وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة وأصحابه‏.‏ وقال الأوزاعي‏:‏ تؤخذ الجزية من كل عابد وثن أو نار أو جاحد أو مكذب‏.‏ وكذلك مذهب مالك، فإنه رأى الجزية تؤخذ من جميع أجناس الشرك والجحد، عربيا أو عجميا، تغلبيا أو قرشيا، كائنا من كان، إلا المرتد‏.‏ وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون‏:‏ تؤخذ الجزية من مجوس العرب والأمم كلها‏.‏ وأما عبدة الأوثان من العرب فلم يستن الله فيهم جزية، ولا يبقى على الأرض منهم أحد، وإنما لهم القتال أو الإسلام‏.‏ ويوجد لابن القاسم‏:‏ أن الجزية تؤخذ منهم، كما يقول مالك‏.‏ وذلك في التفريع لابن الجلاب وهو احتمال لا نص‏.‏ وقال ابن وهب‏:‏ لا تقبل الجزية من مجوس العرب وتقبل من غيرهم‏.‏ قال‏:‏ لأنه ليس في العرب مجوسي إلا وجميعهم أسلم، فمن وجد منهم بخلاف الإسلام فهو مرتد يقتل بكل حال إن لم يسلم ولا تقبل منهم جزية‏.‏ وقال ابن الجهم‏:‏ تقبل الجزية من كل من دان بغير الإسلام إلا ما أجمع عليه من كفار قريش‏.‏ وذكر في تعليل ذلك أنه إكرام لهم عن الذلة والصغار، لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال غيره‏:‏ إنما ذلك لأن جميعهم أسلم يوم فتح مكة‏.‏ والله أعلم‏.‏

وأما المجوس فقال ابن المنذر‏:‏ لا أعلم خلافا أن الجزية تؤخذ منهم‏.‏ وفي الموطأ‏:‏ مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر أمر المجوس فقال‏:‏ ما أدري كيف أصنع في أمرهم‏.‏ فقال عبدالرحمن بن عوف‏:‏ أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏سنوا بهم سنة أهل الكتاب‏)‏‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ يعني في الجزية خاصة‏.‏ وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سنوا بهم سنة أهل الكتاب‏)‏ دليل على أنهم ليسوا أهل كتاب‏.‏ وعلى هذا جمهور الفقهاء‏.‏ وقد روي عن الشافعي أنهم كانوا أهل كتاب فبدلوا‏.‏ وأظنه ذهب في ذلك إلى شيء روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من وجه فيه ضعف، يدور على أبي سعيد البقال، ذكره عبدالرزاق وغيره‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وروي أنه قد كان بعث في المجوس نبي اسمه زرادشت‏.‏ والله أعلم‏.‏

لم يذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه مقدارا للجزية المأخوذة منهم‏.‏ وقد اختلف العلماء في مقدار الجزية المأخوذة منهم، فقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ لا توقيت فيها، وإنما هو على ما صولحوا عليه‏.‏ وكذلك قال يحيى بن آدم وأبو عبيد والطبري، إلا أن الطبري قال‏:‏ أقله دينار وأكثره لا حد له‏.‏ واحتجوا بما رواه أهل الصحيح عن عمرو بن عوف‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين على الجزية‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ دينار على الغني والفقير من الأحرار البالغين لا ينقص منه شيء واحتج بما رواه أبو داود وغيره عن معاذ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا في الجزية‏.‏ قال الشافعي‏:‏ وهو المبين عن الله تعالى مراده‏.‏ وهو قول أبي ثور‏.‏ قال الشافعي‏:‏ وإن صولحوا على أكثر من دينار جاز، وإن زادوا وطابت بذلك أنفسهم قبل منهم‏.‏ وإن صولحوا على ضيافة ثلاثة أيام جاز، إذا كانت الضيافة معلومة في الخبز والشعير والتبن والإدام، وذكر ما على الوسط من ذلك وما على الموسر وذكر موضع النزول والكنِّ من البرد والحر‏.‏ وقال مالك فيما رواه عنه ابن القاسم وأشهب ومحمد بن الحارث بن زنجويه‏:‏ إنها أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق، الغني والفقير سواء ولو كان مجوسيا‏.‏ لا يزاد ولا ينقص على ما فرض عمر لا يؤخذ منهم غيره‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الضعيف يخفف عنه بقدر ما يراه الإمام‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ لا ينقص من فرض عمر لعسر ولا يزاد عليه لغنى‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ ويؤخذ من فقرائهم بقدر ما يحتملون ولو درهما‏.‏ وإلى هذا رجع مالك‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل‏:‏ اثنا عشر، وأربعة وعشرون، وأربعون‏.‏ قال الثوري‏:‏ جاء عن عمر بن الخطاب في ذلك ضرائب مختلفة، فللوالي أن يأخذ بأيها شاء، إذا كانوا أهل ذمة‏.‏ وأما أهل الصلح فما صولحوا عليه لا غير‏.‏

قال علماؤنا رحمة الله عليهم‏:‏ والذي دل عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من الرجال المقاتلين، لأنه تعالى قال‏{‏قاتلوا الذين‏}‏ إلى قوله‏{‏حتى يعطوا الجزية‏}‏ فيقتضي ذلك وجوبها على من يقاتل‏.‏ ويدل على أنه ليس على العبد وإن كان مقاتلا، لأنه لا مال له، ولأنه تعالى قال‏{‏حتى يعطوا‏}‏‏.‏ ولا يقال لمن لا يملك حتى يعطي‏.‏ وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين، وهم الذين يقاتلون دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني‏.‏ واختلف في الرهبان، فروى ابن وهب عن مالك أنها لا تؤخذ منهم‏.‏ قال مطرف وابن الماجشون‏:‏ هذا إذا لم يترهب بعد فرضها فإن فرضت ثم ترهب لم يسقطها ترهبه‏.‏

إذا أعطى أهل الجزية الجزية لم يؤخذ منهم شيء من ثمارهم ولا تجارتهم ولا زروعهم إلا أن يتجروا في بلاد غير بلادهم التي أقروا فيها وصولحوا عليها‏.‏ فإن خرجوا تجارا عن بلادهم التي أقروا فيها إلى غيرها أخذ منهم العشر إذا باعوا ونض ثمن ذلك بأيديهم ولو كان ذلك في السنة مرارا إلا في حملهم الطعام الحنطة والزيت إلى المدينة ومكة خاصة، فإنه يؤخذ منهم نصف العشر على ما فعل عمر‏.‏ ومن أهل المدينة من لا يرى أن يؤخذ من أهل الذمة العشر في تجارتهم إلا مرة في الحول، مثل ما يؤخذ من المسلمين‏.‏ وهو مذهب عمر بن عبدالعزيز وجماعة من أئمة الفقهاء‏.‏ والأول قول مالك وأصحابه‏.‏

إذا أدى أهل الجزية جزيتهم التي ضربت عليهم أو صولحوا عليها خلي بينهم وبين أموالهم كلها، وبين كرومهم وعصرها ما ستروا خمورهم ولم يعلنوا بيعها من مسلم ومنعوا من إظهار الخمر والخنزير في أسواق المسلمين، فإن أظهروا شيئا من ذلك أريقت الخمر عليهم، وأدب من أظهر الخنزير‏.‏ وإن أراقها مسلم من غير إظهارها فقد تعدى، ويجب عليه الضمان‏.‏ وقيل‏:‏ لا يجب ولو غصبها وجب عليه ردها‏.‏ ولا يعترض لهم في أحكامهم ولا متاجرتهم فيما بينهم بالربا‏.‏ فإن تحاكموا إلينا فالحاكم مخير، إن شاء حكم بينهم بما أنزل الله وإن شاء أعرض‏.‏ وقيل‏:‏ يحكم بينهم في المظالم على كل حال، ويؤخذ من قويهم لضعيفهم، لأنه من باب الدفع عنهم وعلى الإمام أن يقاتل عنهم عدوهم ويستعين بهم في قتالهم‏.‏ ولا حظ لهم في الفيء، وما صولحوا عليه من الكنائس لم يزيدوا عليها، ولم يمنعوا من إصلاح ما وهى منها، ولا سبيل لهم إلى إحداث غيرها‏.‏ ويأخذون من اللباس والهيئة بما يبينون به من المسلمين، ويمنعون من التشبه بأهل الإسلام‏.‏ ولا بأس باشتراء أولاد العدو منهم إذا لم تكن لهم ذمة‏.‏ ومن لد في أداء جزيته أدب على لدده وأخذت منه صاغرا‏.‏

اختلف العلماء فيما وجبت الجزية عنه، فقال علماء المالكية‏:‏ وجبت بدلا عن القتل بسبب الكفر‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ وجبت بدلا عن الدم وسكنى الدار‏.‏ وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا وجبت بدلا عن القتل فأسلم سقطت عنه الجزية لما مضى، ولو أسلم قبل تمام الحول بيوم أو بعده عند مالك‏.‏ وعند الشافعي أنها دين مستقر في الذمة فلا يسقطه الإسلام كأجرة الدار‏.‏ وقال بعض الحنفية بقولنا‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إنما وجبت بدلا عن النصر والجهاد‏.‏ واختاره القاضي أبو زيد وزعم أنه سر الله في المسألة‏.‏ وقول مالك أصح، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس على مسلم جزية‏)‏‏.‏ قال سفيان‏:‏ معناه إذا أسلم الذمي بعد ما وجبت الجزية عليه بطلت عنه‏.‏ أخرجه الترمذي وأبو داود‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ وعليه يدل قوله تعالى‏{‏حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏}‏ لأن بالإسلام يزول هذا المعنى‏.‏ ولا خلاف أنهم إذا أسلموا فلا يؤدون الجزية عن يد وهم صاغرون‏.‏ والشافعي لا يأخذ بعد الإسلام على الوجه الذي قاله الله تعالى‏.‏ وإنما يقول‏:‏ إن الجزية دين، وجبت عليه بسبب سابق وهو السكنى أو توقي شر القتل، فصارت كالديون كلها‏.‏

لو عاهد الإمام أهل بلد أو حصن ثم نقضوا عهدهم وامتنعوا من أداء ما يلزمهم من الجزية وغيرها وامتنعوا من حكم الإسلام من غير أن يظلموا وكان الإمام غير جائر عليهم وجب على المسلمين غزوهم وقتالهم مع إمامهم‏.‏ فإن قاتلوا وغلبوا حكم فيهم بالحكم في دار الحرب سواء‏.‏ وقد قيل‏:‏ هم ونساؤهم فيء ولا خمس فيهم، وهو مذهب‏.‏

فإن خرجوا متلصصين قاطعين الطريق فهم بمنزلة المحاربين المسلمين إذا لم يمنعوا الجزية‏.‏ ولو خرجوا متظلمين نظر في أمرهم وردوا إلى الذمة وأنصفوا من ظالمهم ولا يسترق منهم أحد وهم أحرار‏.‏ فإن نقض بعضهم دون بعض فمن لم ينقض على عهده، ولا يؤخذ بنقض غيره وتعرف إقامتهم على العهد بإنكارهم على الناقضين‏.‏

الجزية وزنها فعلة، من جزى يجزي إذا كافأ عما أسدي إليه، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن، وهي كالقعدة والجلسة‏.‏ ومن هذا المعنى قول الشاعر‏:‏

يجزيك أو يثني عليك وإن من أثنى عليك بما فعلت كمن جزى

روى مسلم عن هشام بن حكيم بن حزام ومر على ناس من الأنباط بالشأم قد أقيموا في الشمس - في رواية‏:‏ وصب على رؤوسهم الزيت - فقال‏:‏ ما شأنهم‏؟‏ فقال يحبسون في الجزية‏.‏ فقال هشام‏:‏ أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا‏)‏‏.‏ في رواية‏:‏ وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين، فدخل عليه فحدثه فأمر بهم فخلوا‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ أما عقوبتهم إذا امتنعوا من أدائها مع التمكين فجائز، فأما مع تبين عجزهم فلا تحل عقوبتهم، لأن من عجز عن الجزية سقطت عنه‏.‏ ولا يكلف الأغنياء أداءها عن الفقراء‏.‏ وروى أبو داود عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ شيئا منه بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏عن يد‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يدفعها بنفسه غير مستنيب فيها أحدا روى أبو البختري عن سلمان قال‏:‏ مذمومين‏.‏ وروى معمر عن قتادة قال‏:‏ عن قهر وقيل‏{‏عن يد‏}‏ عن إنعام منكم عليهم، لأنهم إذا أخذت منهم الجزية فقد أنعم عليهم بذلك‏.‏ عكرمة‏:‏ يدفعها وهو قائم والآخذ جالس وقال سعيد بن جبير‏.‏ ابن العربي‏:‏ وهذا ليس من قوله‏{‏عن يد‏}‏ وإنما هو من قوله‏{‏وهم صاغرون‏}‏‏.‏

روى الأئمة عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة‏)وروى‏:‏ ‏(‏واليد العليا هي المعطية‏)‏‏.‏ فجعل يد المعطي في الصدقة عليا، وجعل يد المعطي في الجزية سفلى‏.‏ ويد الآخذ عليا؛ ذلك بأنه الرافع الخافض، يرفع من يشاء ويخفض من يشاء، لا إله غيره‏.‏

عن حبيب بن أبي ثابت قال‏:‏ جاء رجل إلى ابن عباس فقال‏:‏ إن أرض الخراج يعجز عنها أهلها أفأعمرها وأزرعها وأؤدي خراجها‏؟‏ فقال‏:‏ لا‏.‏ وجاءه آخر فقال له ذلك فقال‏:‏ لا وتلا قوله تعالى‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر‏}‏ إلى قوله‏{‏وهم صاغرون‏}‏ أيعمد أحدكم إلى الصغار في عنق أحدهم فينتزعه فيجعله في عنقه وقال كليب بن وائل‏:‏ قلت لابن عمر اشتريت أرضا قال الشراء حسن‏.‏ قلت‏:‏ فإني أعطي عن كل جريب أرض درهما وقفيز طعام‏.‏ قال‏:‏ لا تجعل في عنقك صغارا‏.‏ وروى ميمون بن مهران عن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ ما يسرني أن لي الأرض كلها بجزية خمسة دراهم أمر فيها بالصغار على نفسي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 30 ‏)‏

‏{‏وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون‏}‏قرأ عاصم والكسائي ‏}‏عزير ابن الله‏}‏ بتنوين عزير‏.‏ والمعنى أن ‏}‏ابنا‏}‏ على هذا خبر ابتداء عن عزير و‏}‏عزير‏}‏ ينصرف عجميا كان أو عربيا‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ‏}‏عزير ابن‏}‏ بترك التنوين لاجتماع الساكنين، ومنه قراءة من قرأ ‏}‏قل هو الله أحد الله الصمد‏}‏الإخلاص‏:‏1 - 2‏]‏‏.‏ قال أبو علي‏:‏ وهو كثير في الشعر‏.‏ وأنشد الطبري في ذلك‏:‏

لتجدني بالأمير برا وبالقناة مدعسا مكرا

إذا غطيفُ السُّلَميُّ فرا

قوله تعالى‏{‏وقالت اليهود‏}‏ هذا لفظ خرج على العموم ومعناه الخصوص، لأن ليس كل اليهود قالوا ذلك‏.‏ وهذا مثل قوله تعالى‏{‏الذين قال لهم الناس‏}‏آل عمران‏:‏173‏]‏ ولم يقل ذلك كل الناس‏.‏ وقيل‏:‏ إن قائل ما حكى عن اليهود سلام بن مشكم ونعمان بن أبي أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف، قالوه للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال النقاش‏:‏ لم يبق يهودي يقولها بل انقرضوا فإذا قالها واحد فيتوجه أن تلزم الجماعة شنعة المقالة، لأجل نباهة القائل فيهم‏.‏ وأقوال النبهاء أبدا مشهورة في الناس يحتج بها‏.‏ فمن ههنا صح أن تقول الجماعة قول نبيهها‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقد روي أن سبب ذلك القول أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السلام فرفع الله عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم، فخرج عزير يسيح في الأرض، فأتاه جبريل فقال‏:‏ ‏(‏أين تذهب‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ أطلب العلم، فعلمه التوراة كلها فجاء عزير بالتوراة إلى بني إسرائيل فعلمهم‏.‏ وقيل‏:‏ بل حفظها الله عزيرا كرامة منه له، فقال لبني إسرائيل‏:‏ إن الله قد حفظني التوراة، فجعلوا يدرسونها من عنده‏.‏ وكانت التوراة مدفونة، كان دفنها علماؤهم حين أصابهم من الفتن والجلاء والمرض ما أصاب وقتل بختنصر إياهم‏.‏ ثم إن التوراة المدفونة وجدت فإذا هي متساوية لما كان عزير يدرس فضلوا عند ذلك وقالوا‏:‏ إن هذا لم يتهيأ لعزير إلا وهو ابن الله حكاه الطبري‏.‏ وظاهر قول النصارى أن المسيح ابن الله، إنما أرادوا بنوة النسل كما قالت العرب في الملائكة‏.‏ وكذلك يقتضي قول الضحاك والطبري وغيرهما‏.‏ وهذا أشنع الكفر‏.‏ قال أبو المعالي‏:‏ أطبقت النصارى على أن المسيح إله وإنه ابن إله‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويقال إن بعضهم يعتقدها بنوة حنو ورحمة‏.‏ وهذا المعنى أيضا لا يحل أن تطلق البنوة عليه وهو كفر‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ في هذا دليل من قول ربنا تبارك وتعالى على أن من أخبر عن كفر غيره الذي لا يجوز لأحد أن يبتدئ به لا حرج عليه، لأنه إنما ينطق به على معنى الاستعظام له والرد عليه ولو شاء ربنا ما تكلم به أحد، فإذا مكن من إطلاق الألسن به فقد أذن بالإخبار عنه على معنى إنكاره بالقلب واللسان والرد عليه بالحجة والبرهان‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذلك قولهم بأفواههم‏}‏ قيل‏:‏ معناه التأكيد، كما قال تعالى‏{‏يكتبون الكتاب بأيديهم‏}‏البقرة‏:‏ 79‏]‏ وقوله‏{‏ولا طائر يطير بجناحيه‏}‏الأنعام‏:‏38‏]‏ وقوله‏{‏فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة‏}‏الحاقة‏:‏13‏]‏ ومثله كثير‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أنه لما كان قول ساذج ليس فيه بيان ولا برهان، وإنما هو قول بالفم مجرد نفس دعوى لا معنى تحته صحيح لأنهم معترفون بأن الله سبحانه لم يتخذ صاحبة فكيف يزعمون أن له ولدا، فهو كذب وقول لساني فقط بخلاف الأقوال الصحيحة التي تعضدها الأدلة ويقوم عليها البرهان‏.‏ قال أهل المعاني‏:‏ إن الله سبحانه لم يذكر قولا مقرونا بذكر الأفواه والألسن إلا وكان قولا زورا، كقوله‏{‏يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم‏}‏آل عمران‏:‏ 167‏]‏ و‏}‏كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا‏}‏الكهف‏:‏ 5‏]‏ و‏}‏يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم‏}‏الفتح‏:‏ 11‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏يضاهئون قول الذين كفروا من قبل‏}‏ ‏}‏يضاهئون‏}‏ يشابهون، ومنه قول العرب‏:‏ امرأة ضهيأ للتي لا تحيض أو التي لا ثدي لها، كأنها أشبهت الرجال‏.‏ وللعلماء في ‏}‏قول الذين كفروا‏}‏ ثلاثة أقوال‏:‏‏[‏الأول‏]‏ قول عبدة الأوثان‏:‏ اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى‏.‏ الثاني‏:‏ قول الكفرة‏:‏ الملائكة بنات الله‏.‏ الثالث‏:‏ قول أسلافهم، فقلدوهم في الباطل واتبعوهم على الكفر، كما أخبر عنهم بقوله تعالى‏{‏إنا وجدنا آباءنا على أمة‏}‏الزخرف‏:‏ 23‏]‏‏.‏

اختلف العلماء في ‏}‏ضهيأ‏}‏ هل يمد أو لا، فقال ابن ولاد‏:‏ امرأة ضهيأ، وهي التي لا تحيض، مهموز غير ممدود‏.‏ ومنهم من يمد وهو سيبويه فيجعلها على فعلاء بالمد، والهمزة فيها زائدة لأنهم يقولون نساء ضهي فيحذفون الهمزة‏.‏ قال أبو الحسن قال لي النجيرمي‏:‏ ضهيأة بالمد والهاء‏.‏ جمع بين علامتي تأنيث، حكاه عن أبي عمرو الشيباني في النوادر‏.‏ وأنشد‏:‏

ضهيأة أو عاقر جماد

ابن عطية‏:‏ من قال ‏}‏يضاهئون‏}‏ مأخوذ من قولهم‏:‏ امرأة ضهياء فقوله خطأ، قاله أبو علي، لأن الهمزة في ‏(‏ضاهأ‏)‏ أصلية، وفي ‏(‏ضهياء‏)‏ زائدة كحمراء‏.‏

قوله تعالى‏{‏قاتلهم الله أنى يؤفكون‏}‏ أي لعنهم الله، يعني اليهود والنصارى، لأن الملعون كالمقتول‏.‏ قال ابن جريج‏{‏قاتلهم الله‏}‏ هو بمعنى التعجب‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كل شيء في القرآن قتل فهو لعن، ومنه قول أبان ابن تغلب‏:‏

قاتلها الله تلحاني وقد علمت أني لنفسي إفسادي وإصلاحي

وحكى النقاش أن أصل ‏}‏قاتل الله‏}‏ الدعاء، ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشر، وهم لا يريدون الدعاء‏.‏ وأنشد الأصمعي‏:‏

يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني وأخبر الناس أني لا أباليها

 الآية رقم ‏(‏ 31 ‏)‏

‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون‏}‏

قوله تعالى‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم‏}‏ الأحبار جمع حبر، وهو الذي يحسن القول وينظمه ويتقنه بحسن البيان عنه‏.‏ ومنه ثوب محبر أي جمع الزينة‏.‏ وقد قيل في واحد الأحبار‏:‏ حبر بكسر الحاء، والدليل على ذلك أنهم قالوا‏:‏ مداد حبر يريدون مداد عالم، ثم كثر الاستعمال حتى قالوا للمداد حبر‏.‏ قال الفراء‏:‏ الكسر والفتح لغتان‏.‏ وقال ابن السكيت‏:‏ الحبر بالكسر المداد، والحبر بالفتح العالم‏.‏ والرهبان جمع راهب مأخوذ من الرهبة، وهو الذي حمله خوف الله تعالى على أن يخلص له النية دون الناس، ويجعل زمانه له وعمله معه وأنسه به‏.‏

قوله تعالى‏{‏أربابا من دون الله‏}‏ قال أهل المعاني‏:‏ جعلوا أحبارهم ورهبانهم كالأرباب حيث أطاعوهم في كل شيء ومنه قوله تعالى‏{‏قال انفخوا حتى إذا جعله نارا‏}‏الكهف‏:‏ 96‏]‏ أي كالنار‏.‏ قال عبدالله بن المبارك‏:‏

وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها

روى الأعمش وسفيان عن حبيب بن أبى ثابت عن أبى البختري قال‏:‏ سئل حذيفة عن قول الله عز وجل‏{‏أتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله‏}‏ هل عبدوهم‏؟‏ فقال لا، ولكن أحلوا لهم الحرام فاستحلوه، وحرموا عليهم الحلال فحرموه‏.‏ وروى الترمذي عن عدي بن حاتم قال‏:‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏ما هذا يا عدي اطرح عنك هذا الوثن‏)‏ وسمعته يقرأ في سورة ‏[‏براءة}‏ ‏}‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه‏)‏‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث غريب لا يعرف إلا من حديث عبدالسلام بن حرب‏.‏ وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث‏.‏

قوله تعالى‏{‏والمسيح ابن مريم‏}‏ مضى الكلام في اشتقاقه في ‏}‏آل عمران‏}‏ والمسيح‏:‏ العرق يسيل من الجبين‏.‏ ولقد أحسن بعض المتأخرين فقال‏:‏

افرح فسوف تألف الأحزانا إذا شهدت الحشر والميزانا

وسال من جبينك المسيح كأنه جداول تسيح

ومضى في ‏}‏النساء‏}‏ معنى إضافته إلى مريم أمه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 32 ‏)‏

‏{‏يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏يريدون أن يطفئوا نور الله‏}‏ أي دلالته وحججه على توحيده‏.‏ جعل البراهين بمنزلة النور لما فيها من البيان‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى نور الإسلام، أي أن يخمدوا دين الله بتكذيبهم‏.‏ ‏}‏بأفواههم‏}‏ جمع فوه على الأصل، لأن الأصل في فم فوه، مثل حوض وأحواض‏.‏ ‏}‏ويأبى الله إلا أن يتم نوره‏}‏ يقال‏:‏ كيف دخلت ‏}‏إلا‏}‏ وليس في الكلام حرف نفي، ولا يجوز ضربت إلا زيدا‏.‏ فزعم الفراء أن ‏}‏إلا‏}‏ إنما دخلت لأن في الكلام طرفا من الجحد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الجحد والتحقيق ليسا بذوي أطراف‏.‏ وأدوات الجحد‏:‏ ما، ولا، وإن، وليس‏:‏ وهذه لا أطراف لها ينطق بها ولو كان الأمر كما أراد لجاز كرهت إلا زيدا، ولكن الجواب أن العرب تحذف مع أبى‏.‏ والتقدير‏:‏ ويأبى الله كل شيء إلا أن يتم نوره‏.‏ وقال علي بن سليمان‏:‏ إنما جاز هذا في ‏}‏أبى‏}‏ لأنها منع أو امتناع فضارعت النفي‏.‏ قال النحاس‏:‏ فهذا حسن، كما قال الشاعر‏:‏

وهل لي أم غيرها إن تركتها أبى الله إلا أن أكون لها ابنما

 الآية رقم ‏(‏ 33 ‏)‏

‏{‏هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون‏}‏

قوله تعالى‏{‏هو الذي أرسل رسوله‏}‏ يريد محمدا صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏}‏بالهدى‏}‏ أي بالفرقان‏.‏ ‏}‏ودين الحق ليظهره على الدين كله‏}‏ أي بالحجة والبراهين‏.‏ وقد أظهره على شرائع الدين حتى لا يخفى عليه شيء منها، عن ابن عباس وغيره‏.‏ وقيل‏{‏ليظهره‏}‏ أي ليظهر الدين دين الإسلام على كل دين‏.‏ قال أبو هريرة والضحاك‏:‏ هذا عند نزول عيسى عليه السلام‏.‏ وقال السدي‏:‏ ذاك عند خروج المهدي، لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام أو أدى الجزية‏.‏ وقيل‏:‏ المهدي هو عيسى فقط وهو غير صحيح لأن الأخبار الصحاح قد تواترت على أن المهدي من عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز حمله على عيسى‏.‏ والحديث الذي ورد في أنه ‏(‏لا مهدي إلا عيسى‏)‏ غير صحيح‏.‏ قال البيهقي في كتاب البعث والنشور‏:‏ لأن راويه محمد بن خالد الجندي وهو مجهول، يروي عن أبان بن أبي عياش - وهو متروك - عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو منقطع‏.‏ والأحاديث التي قبله في التنصيص على خروج المهدي، وفيها بيان كون المهدي من عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصح إسنادا‏.‏

قلت‏:‏ قد ذكرنا هذا وزدناه بيانا في كتابنا كتاب التذكرة وذكرنا أخبار المهدي مستوفاة والحمد لله‏.‏ وقيل‏:‏ أراد ‏}‏ليظهره على الدين كله‏}‏ في جزيرة العرب، وقد فعل‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 34 ‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ليأكلون أموال الناس بالباطل‏}‏ دخلت اللام على يفعل، ولا تدخل على فعل لمضارعة يفعل الأسماء‏.‏ والأحبار علماء اليهود‏.‏ والرهبان مجتهدو النصارى في العبادة‏.‏ ‏}‏بالباطل‏}‏ قيل‏:‏ إنهم كانوا يأخذون من أموال أتباعهم ضرائب وفروضا باسم الكنائس والبيع وغير ذلك، مما يوهمونهم أن النفقة فيه من الشرع والتزلف إلى الله تعالى، وهم خلال ذلك يحجبون تلك الأموال، كالذي ذكره سلمان الفارسي عن الراهب الذي استخرج كنزه، ذكره ابن إسحاق في السير‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يأخذون من غلاتهم وأموالهم ضرائب باسم حماية الدين والقيام بالشرع‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يرتشون في الأحكام، كما يفعله اليوم كثير من الولاة والحكام‏.‏ وقوله‏{‏بالباطل‏}‏ يجمع ذلك كله‏.‏ ‏}‏ويصدون عن سبيل الله‏}‏ أي يمنعون أهل دينهم عن الدخول في دين الإسلام، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏والذين يكنزون الذهب والفضة‏}‏ الكنز أصله في اللغة الضم والجمع ولا يختص ذلك بالذهب والفضة‏.‏ ألا ترى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء المرأة الصالحة‏)‏‏.‏ أي يضمه لنفسه ويجمعه‏.‏ قال‏:‏

ولم تزود من جميع الكنز غير خيوط ورثيث بز

وقال آخر‏:‏

لا درَّ درّي إن أطعمت جائعهم قِرْف الحتيِّ وعندي البر مكنوز

قرف الحتي هو سويق المقل‏.‏ يقول‏:‏ إنه نزل بقوم فكان قراه عندهم سويق المقل، وهو الحتي، فلما نزلوا به قال هو‏:‏ لا در دري‏.‏‏.‏‏.‏ البيت‏.‏ وخص الذهب والفضة بالذكر لأنه مما لا يطلع عليه، بخلاف سائر الأموال‏.‏ قال الطبري‏:‏ الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض، في بطن الأرض كان أو على ظهرها‏.‏ وسمي الذهب ذهبا لأنه يذهب، والفضة لأنها تنفض فتتفرق، ومنه قوله تعالى‏{‏انفضوا إليها‏}‏الجمعة‏:‏ 11‏]‏ - ‏}‏لانفضوا من حولك‏}‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏ وقد مضى هذا المعنى في ‏}‏آل عمران‏}‏‏.‏

واختلف الصحابة في المراد بهذه الآية، فذهب معاوية إلى أن المراد بها أهل الكتاب وإليه ذهب الأصم لأن قوله‏{‏والذين يكنزون‏}‏ مذكور بعد قوله‏{‏إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال لناس بالباطل‏}‏‏.‏ وقال أبو ذر وغيره‏:‏ المراد بها أهل الكتاب وغيرهم من المسلمين‏.‏ وهو الصحيح، لأنه لو أراد أهل الكتاب خاصة لقال‏:‏ ويكنزون، بغير والذين‏.‏ فلما قال‏{‏والذين‏}‏ فقد استأنف معنى آخر يبين أنه عطف جملة على جملة‏.‏ فالذين يكنزون كلام مستأنف، وهو رفع على الابتداء‏.‏ قال السدي‏:‏ عنى أهل القبلة‏.‏ فهذه ثلاثة أقوال‏.‏ وعلى قول الصحابة فيه دليل على أن الكفار عندهم مخاطبون بفروع الشريعة‏.‏ روى البخاري عن زيد بن وهب قال‏:‏ مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر فقلت له‏:‏ ما أنزلك منزلك هذا‏؟‏ قال‏:‏ كنت بالشأم فاختلفت أنا ومعاوية في ‏}‏الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله‏}‏، فقال معاوية‏:‏ نزلت في أهل الكتاب‏.‏ فقلت‏:‏ نزلت فينا وفيهم، وكان بيني وبينه في ذلك‏.‏ فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان فقال‏:‏ إن شئت تنحيت فكنت قريبا، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ولو أمروا علي حبشيا لسمعت وأطعت‏.‏

قال ابن خويز منداد‏:‏ تضمنت هذه الآية زكاة العين، وهي تجب بأربعة شروط‏:‏ حرية، وإسلام، وحول، ونصاب سليم من الدين‏.‏ والنصاب مائتا درهم أو عشرون دينارا‏.‏ أو يكمل نصاب أحدهما من الآخر وأخرج ربع العشر من هذا وربع العشر من هذا‏.‏ وإنما قلنا إن الحرية شرط، فلأن العبد ناقص الملك‏.‏ وإنما قلنا إن الإسلام شرط، فلأن الزكاة طهرة والكافر لا تلحقه طهرة، ولأن الله تعالى قال‏{‏وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة‏}‏البقرة‏:‏43‏]‏ فخوطب بالزكاة من خوطب بالصلاة‏.‏ وإنما قلنا إن الحول شرط، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول‏)‏‏.‏ وإنما قلنا إن النصاب شرط، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ليس في أقل من مائتي درهم زكاة وليس في أقل من عشرين دينارا زكاة‏)‏‏.‏ ولا يراعى كمال النصاب في أول الحول، وإنما يراعى عند آخر الحول، لاتفاقهم أن الربح في حكم الأصل‏.‏ يدل على هذا أن من كانت معه مائتا درهم فتجر فيها فصارت آخر الحول ألفا أنه يؤدي زكاة الألف، ولا يستأنف للربح حولا‏.‏ فإذا كان كذلك لم يختلف حكم الربح، كان صادرا عن نصاب أو دونه‏.‏ وكذلك اتفقوا أنه لو كان له أربعون من الغنم، فتوالدت له رأس الحول ثم ماتت الأمهات إلا واحدة منها، وكانت السخال تتمة النصاب فإن الزكاة تخرج عنها‏.‏

واختلف العلماء في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزا أم لا‏؟‏ فقال قوم‏:‏ نعم‏.‏ ورواه أبو الضحاك عن جعدة بن هبيرة عن علي رضي الله عنه، قال علي‏:‏ أربعة آلاف فما دونها نفقة، وما كثر فهو كنز وإن أديت زكاته، ولا يصح‏.‏ وقال قوم‏:‏ ما أديت زكاته منه أو من غيره عنه فليس بكنز‏.‏ قال ابن عمر‏:‏ ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض‏.‏ ومثله عن جابر، وهو الصحيح‏.‏ وروى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول أنا مالك أنا كنزك - ثم تلا - ‏}‏ولا يحسبن الذين يبخلون‏}‏آل عمران‏:‏ 180‏]‏ الآية‏.‏ وفيه أيضا عن أبي ذر، قال‏:‏ انتهيت إليه - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - قال‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده - أو والذي لا إله غيره أو كما حلف - ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها إلا أتي بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس‏)‏‏.‏ فدل دليل خطاب هذين الحديثين على صحة ما ذكرنا‏.‏ وقد بين ابن عمر في صحيح البخاري هذا المعنى، قال له أعرابي‏:‏ أخبرني عن قول الله تعالى‏{‏والذين يكنزون الذهب والفضة‏}‏ قال ابن عمر‏:‏ من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال‏.‏ وقيل‏:‏ الكنز ما فضل عن الحاجة‏.‏ روى عن أبي ذر، وهو مما نقل من مذهبه، وهو من شدائده ومما انفرد به رضي الله عنه‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون مجمل ما روي عن أبي ذر في هذا، ما روي أن الآية نزلت في وقت شدة الحاجة وضعف المهاجرين وقصر يد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كفايتهم، ولم يكن في بيت المال ما يسعهم، وكانت السنون الجوائح هاجمة عليهم، فنهوا عن إمساك شيء من المال إلا على قدر الحاجة ولا يجوز ادخار الذهب والفضة في مثل ذلك الوقت‏.‏ فلما فتح الله على المسلمين ووسع عليهم أوجب صلى الله عليه وسلم في مائتي درهم خمسة دراهم وفي عشرين دينارا نصف دينار ولم يوجب الكل واعتبر مدة الاستنماء، فكان ذلك منه بيانا صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ الكنز ما لم تؤد منه الحقوق العارضة، كفك الأسير وإطعام الجائع وغير ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ الكنز لغة المجموع من النقدين، وغيرهما من المال محمول عليهما بالقياس‏.‏ وقيل‏:‏ المجموع منهما ما لم يكن حليا، لأن الحلي مأذون في اتخاذه ولا حق فيه‏.‏ والصحيح ما بدأنا بذكره، وأن ذلك كله يسمى كنزا لغة وشرعا‏.‏ والله أعلم‏.‏

واختلف العلماء في زكاة الحلي، فذهب مالك وأصحابه وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد إلى أن لا زكاة فيه‏.‏ وهو قول الشافعي بالعراق، ووقف فيه بعد ذلك بمصر وقال‏:‏ أستخير الله فيه‏.‏ وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي‏:‏ في ذلك كله الزكاة‏.‏ احتج الأولون فقالوا‏:‏ قصد النماء يوجب الزكاة في العروض وهي ليست بمحل لإيجاب الزكاة، كذلك قطع النماء في الذهب والفضة باتخاذهما حليا للقنية يسقط الزكاة‏.‏ احتج أبو حنيفة بعموم الألفاظ في إيجاب الزكاة في النقدين ولم يفرق بين حلي وغيره‏.‏ وفرق الليث بن سعد فأوجب الزكاة فيما صنع حليا ليفر به من الزكاة وأسقطها فيما كان منه يلبس ويعار وفي المذهب في الحلي تفصيل بيانه في كتب الفروع‏.‏

روى أبو داود عن ابن عباس قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏}‏والذين يكنزون الذهب والفضة‏}‏ قال‏:‏ كبر ذلك على المسلمين، فقال عمر‏:‏ أنا أفرج عنكم فانطلق فقال‏:‏ يا نبي الله إنه كبر على أصحابك هذه الآية‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث - وذكر كلمة - لتكون لمن بعدكم‏)‏ قال‏:‏ فكبر عمر‏.‏ ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته‏)‏‏.‏ وروى الترمذي وغيره عن ثوبان أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ قد ذم الله سبحانه الذهب والفضة، فلو علمنا أي المال خير حتى نكسبه‏.‏ فقال عمر‏:‏ أنا أسأل لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فقال‏:‏ ‏(‏لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة تعين المرء على دينه‏)‏‏.‏ قال حديث حسن‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا ينفقونها في سبيل الله‏}‏ ولم يقل ينفقونهما، ففيه أجوبة ستة‏:‏ الأول‏:‏ قال ابن الأنباري‏:‏ قصد الأغلب والأعم وهي الفضة، ومثله قوله‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة‏}‏البقرة‏:‏ 45‏]‏ رد الكناية إلى الصلاة لأنها أعم‏.‏ ومثله ‏}‏وإذا رأوا تجارة أو لهوا انقضوا إليها‏}‏الجمعة‏:‏ 11‏]‏ فأعاد الهاء إلى التجارة لأنها الأهم وترك اللهو قاله كثير من المفسرين‏.‏ وأباه بعضهم وقال‏:‏ لا يشبهها، لأن ‏}‏أو‏}‏ قد فصلت التجارة من اللهو فحسن عود الضمير على أحدهما‏.‏ الثاني‏:‏ العكس وهو أن يكون ‏}‏ينفقونها‏}‏ للذهب والثاني معطوفا عليه‏.‏ والذهب تؤنثه العرب تقول‏:‏ هي الذهب الحمراء‏.‏ وقد تذكر والتأنيث أشهر‏.‏ الثالث‏:‏ أن يكون الضمير للكنوز‏.‏ الرابع‏:‏ للأموال المكنوزة‏.‏ الخامس‏:‏ للزكاة التقدير ولا ينفقون زكاة الأموال المكنوزة‏.‏ السادس‏:‏ الاكتفاء بضمير الواحد عن ضمير الآخر إذا فهم المعنى، وهذا كثير في كلام العرب‏.‏ أنشد سيبويه‏:‏

نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف

ولم يقل راضون‏.‏ وقال آخر‏.‏

رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوي رماني

ولم يقل بريئين‏.‏ ونحوه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه‏:‏

إن شرخ الشباب والشعر الأسود ما لم يعاص كان جنونا

ولم يقل يعاصيا‏.‏

إن قيل‏:‏ من لم يكنز ولم ينفق في سبيل الله وأنفق في المعاصي، هل يكون حكمه في الوعيد حكم من كنز ولم ينفق في سبيل الله‏.‏ قيل له‏:‏ إن ذلك أشد، فإن من بذر ماله في المعاصي عصى من جهتين‏:‏ بالإنفاق والتناول، كشراء الخمر وشربها‏.‏ بل من جهات إذا كانت المعصية مما تتعدى، كمن أعان على ظلم مسلم من قتله أو أخذ ماله إلى غير ذلك‏.‏ والكانز عصى من جهتين، وهما منع الزكاة وحبس المال لا غير‏.‏ وقد لا يراعى حبس المال، والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فبشرهم بعذاب أليم‏}‏ قد تقدم معناه‏.‏ وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذا العذاب بقوله‏:‏ ‏(‏بشر الكنازين بكي في ظهورهم يخرج من جنوبهم وبكي من قبل أقفائهم يخرج من جباههم‏)‏ الحديث‏.‏ أخرجه مسلم‏.‏ رواه أبو ذر في رواية‏:‏ ‏(‏بشر الكنازين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفيه ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه فيتزلزل‏)‏ الحديث‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ فخروج الرضف من حلمة ثديه إلى نغض كتفه لتعذيب قلبه وباطنه حين امتلأ بالفرج بالكثرة في المال والسرور في الدنيا، فعوقب في الآخرة بالهم والعذاب‏.‏

قال علماؤنا‏:‏ ظاهر الآية تعليق الوعيد على من كنز ولا ينفق في سبيل الله ويتعرض للواجب وغيره، غير أن صفة الكنز لا ينبغي أن تكون معتبرة، فإن من لم يكنز ومنع الإنفاق في سبيل الله فلا بد وأن يكون كذلك، إلا أن الذي يخبأ تحت الأرض هو الذي يمنع إنفاقه في الواجبات عرفا، فلذلك خص الوعيد به‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 35 ‏)‏

‏{‏يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون‏}‏

قوله تعالى‏{‏يوم يحمى عليها في نار جهنم‏}‏ ‏}‏يوم‏}‏ ظرف، والتقدير يعذبون يوم يحمى‏.‏ ولا يصح أن يكون على تقدير‏:‏ فبشرهم يوم يحمى عليها، لأن البشارة لا تكون حينئذ‏.‏ يقال‏:‏ أحميت الحديدة في النار، أي أوقدت عليها‏.‏ ويقال‏:‏ أحميته، ولا يقال‏:‏ أحميت عليه‏.‏ وههنا قال عليها، لأنه جعل ‏}‏على‏}‏ من صلة معنى الإحماء، ومعنى الإحماء الإيقاد‏.‏ أي يوقد عليها فتكوى‏.‏ الكي‏:‏ إلصاق الحار من الحديد والنار بالعضو حتى يحترق الجلد‏.‏ والجباه جمع الجبهة، وهو مستوى ما بين الحاجب إلى الناصية‏.‏ وجبهت فلانا بكذا، أي استقبلته به وضربت جبهته‏.‏ والجنوب جمع الجنب‏.‏ والكي في الوجه أشهر وأشنع، وفي الجنب والظهر آلم وأوجع، فلذلك خصها بالذكر من بين سائر الأعضاء‏.‏ وقال علماء الصوفية‏:‏ لما طلبوا المال والجاه شان الله وجوههم، ولما طووا كشحا عن الفقير إذا جالسهم كويت جنوبهم، ولما أسندوا ظهورهم إلى أموالهم ثقة بها واعتمادا عليها كويت ظهورهم‏.‏ وقال علماء الظاهر‏:‏ إنما خص هذه الأعضاء لأن الغني إذا رأى الفقير زوى ما بين عينيه وقبض وجهه‏.‏ كما قال‏:‏

يزيد يغض الطرف عني كأنما زوى بين عينيه علي المحاجم

فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ولا تلقني إلا وأنفك راغم

وإذا سأله طوى كشحه، وإذا زاده في السؤال وأكثر عليه ولاه ظهره‏.‏ فرتب الله العقوبة على حال المعصية‏.‏

واختلفت الآثار في كيفية الكي بذلك، ففي صحيح مسلم من حديث أبي ذر ما ذكرنا من ذكر الرضف‏.‏ وفيه من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏ الحديث‏.‏ وفي البخاري‏:‏ أنه يمثل له كنزه شجاعا أقرع‏.‏ وقد تقدم في غير الصحيح عن عبدالله بن مسعود أنه قال‏:‏‏(‏من كان له مال فلم يؤد زكاته طوقه يوم القيامة شجاعا أقرع ينفر رأسه‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏

قلت‏:‏ ولعل هذا يكون في مواطن‏:‏ موطن يمثل المال فيه ثعبانا، وموطن يكون صفائح وموطن يكون رضفا‏.‏ فتتغير الصفات والجسمية واحدة، فالشجاع جسم والمال جسم‏.‏ وهذا التمثيل حقيقة، بخلاف قوله‏:‏ ‏(‏يؤتى بالموت كأنه كبش أملح‏)‏ فإن تلك طريقة أخرى، ولله سبحانه وتعالى أن يفعل ما يشاء‏.‏ وخص الشجاع بالذكر لأنه العدو الثاني للخلق‏.‏ والشجاع من الحيات هو الحية الذكر الذي يواثب الفارس والراجل، ويقوم على ذنبه وربما بلغ الفارس، ويكون في الصحارى‏.‏ وقيل‏:‏ هو الثعبان‏.‏ قال اللحياني‏:‏ يقال للحية شجاع، وثلاثة أشجعة، ثم شجعان‏.‏ والأقرع من الحيات هو الذي تمعط رأسه وابيض من السم‏.‏ في الموطأ‏:‏ له زبيبتان، أي نقطتان منتفختان في شدقيه كالرغوتين‏.‏ ويكون ذلك في شدقي الإنسان إذا غضب وأكثر من الكلام‏.‏ قالت أم غيلان بنت جرير ربما أنشدت أبي حتى يتزبب شدقاي‏.‏ ضرب مثلا للشجاع الذي كثر سمه فيمثل المال بهذا الحيوان فيلقى صاحبه غضبان‏.‏ وقال ابن دريد‏:‏ نقطتان سوداوان فوق عينيه‏.‏ في رواية‏:‏ مثل له شجاع يتبعه فيضطره فيعطيه يده فيقضمها كما يقضم الفحل‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏‏(‏والله لا يعذب الله أحدا بكنز فيمس درهم درهما ولا دينار دينارا، ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل درهم ودينار على حدته‏)‏ وهذا إنما يصح في الكافر - كما ورد في الحديث - لا في المؤمن‏.‏ والله أعلم‏.‏

أسند الطبري إلى أبي أمامة الباهلي قال‏:‏ مات رجل من أهل الصفة فوجد في بردته دينار‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كية‏)‏‏.‏ ثم مات آخر فوجد له ديناران‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏كيتان‏)‏‏.‏ وهذا إما لأنهما كانا يعيشان من الصدقة وعندهما البر، وإما لأن هذا كان في صدر الإسلام، ثم قرر الشرع ضبط المال وأداء حقه‏.‏ ولو كان ضبط المال ممنوعا لكان حقه أن يخرج كله، وليس في الأمة من يلزم هذا‏.‏ وحسبك حال الصحابة وأموالهم رضوان الله عليهم‏.‏ وأما ما ذكر عن أبي ذر فهو مذهب له، رضي الله عنه‏.‏ وقد روى موسى بن عبيدة عن عمران بن أبي أنس عن مالك بن أوس بن الحدثان عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من جمع دينارا أو درهما أو تبرا أو فضة ولا يعده لغريم ولا ينفقه في سبيل الله فهو كنز يكوى به يوم القيامة‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ هذا الذي يليق بأبي ذر رضي الله عنه أن يقول به، وأن ما فضل عن الحاجة فليس بكنز إذا كان معدا لسبيل الله‏.‏ وقال أبو أمامة‏:‏ من خلف بيضا أوصفرا كوي بها مغفورا له أو غير مغفور له، ألا إن حلية السيف من ذلك‏.‏ وروى ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما من رجل يموت وعنده أحمر أو أبيض إلا جعل الله له بكل قيراط صفيحة يكوى بها من فرقه إلى قدمه مغفورا له بعد ذلك أو معذبا‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا محمول على ما لم تؤد زكاته بدليل ما ذكرنا في الآية قبل هذا‏.‏ فيكون التقدير‏:‏ وعنده أحمر أو أبيض لم يؤد زكاته‏.‏ وكذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ من ترك عشرة آلاف جعلت صفائح يعذب بها صاحبها يوم القيامة‏.‏ أي إن لم يؤد زكاتها، لئلا تتناقض الأحاديث‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏هذا ما كنزتم لأنفسكم‏}‏ أي يقال لهم هذا ما كنزتم، فحذف‏.‏ ‏}‏فذوقوا ما كنتم تكنزون‏}‏ أي عذاب ما كنتم تكنزون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 36 ‏)‏

‏{‏إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن عدة الشهور‏}‏ جمع شهر‏.‏ فإذا قال الرجل لأخيه‏:‏ لا أكلمك الشهور، وحلف على ذلك فلا يكلمه حولا، قاله بعض العلماء‏.‏ وقيل‏:‏ لا يكلمه أبدا‏.‏ ابن العربي‏:‏ وأرى إن لم تكن له نية أن يقتضي ذلك ثلاثة أشهر لأنه أقل الجمع الذي يقتضيه صيغة فعول في جمع فعل‏.‏ ‏}‏عند الله‏}‏ أي في حكم الله وفيما كتب في اللوح المحفوظ‏.‏ ‏}‏اثنا عشر شهرا‏}‏ أعربت ‏}‏اثنا عشر شهرا‏}‏ دون نظائرها، لأن فيها حرف الإعراب ودليله‏.‏ وقرأ العامة ‏}‏عشر‏}‏ بفتح العين والشين‏.‏ وقرأ أبو جعفر ‏}‏عشر‏}‏ بجزم الشين‏.‏ ‏}‏في كتاب الله‏}‏ يريد اللوح المحفوظ‏.‏ وأعاده بعد أن قال ‏}‏عند الله‏}‏ لأن كثيرا من الأشياء يوصف بأنه عند الله، ولا يقال إنه مكتوب في كتاب الله، كقوله‏{‏إن الله عنده علم الساعة‏}‏لقمان‏:‏ 34‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏يوم خلق السماوات والأرض‏}‏ إنما قال ‏}‏يوم خلق السموات والأرض‏}‏ ليبين أن قضاءه وقدره كان قبل ذلك، وأنه سبحانه وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتبها عليه يوم خلق السموات والأرض، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة‏.‏ وهو معنى قوله تعالى‏{‏إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا‏}‏‏.‏ وحكمها باق على ما كانت عليه لم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين لأسمائها، وتقديم المقدم في الاسم منها‏.‏ والمقصود من ذلك اتباع أمر الله فيها ورفض ما كان عليه أهل الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها، وتعليق الأحكام على الأسماء التي رتبوها عليه، ولذلك قال عليه السلام في خطبته في حجة الوداع‏:‏ ‏(‏أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ على ما يأتي بيانه‏.‏ وأن الذي فعل أهل الجاهلية من جعل المحرم صفرا وصفر محرما ليس يتغير به ما وصفه الله تعالى‏.‏ والعامل في ‏}‏يوم‏}‏ المصدر الذي هو ‏}‏في كتاب الله‏}‏ وليس يعنى به واحد الكتب، لأن الأعيان لا تعمل في الظروف‏.‏ والتقدير‏:‏ فيما كتب الله يوم خلق السموات والأرض‏.‏ و‏}‏عند‏}‏ متعلق بالمصدر الذي هو العدة، وهو العامل فيه‏.‏ و‏}‏في‏}‏ من قوله‏{‏في كتاب الله‏}‏ متعلقة بمحذوف، هو صفة لقوله‏{‏اثنا عشر‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ اثنا عشر شهرا معدودة أو مكتوبة في كتاب الله‏.‏ ولا يجوز أن تتعلق بعدة لما فيه من التفرقة بين الصلة والموصول بخبر إن‏.‏

هذه الآية تدل على أن الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب، دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقبط وإن لم تزد على اثني عشر شهرا، لأنها مختلفة الأعداد، منها ما يزيد على ثلاثين ومنها ما ينقص، وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين وإن كان منها ما ينقص، والذي ينقص ليس يتعين له شهر، وإنما تفاوتها في النقصان والتمام على حسب اختلاف سير القمر في البروج‏.‏

قوله تعالى‏{‏منها أربعة حرم‏}‏ الأشهر الحرم المذكورة في هذه الآية ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى الآخرة وشعبان، وهو رجب مضر، وقيل له رجب مضر لأن ربيعة بن نزار كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجبا‏.‏ وكانت مضر تحرم رجبا نفسه، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه‏:‏ ‏(‏الذي بين جمادى وشعبان‏)‏ ورفع ما وقع في اسمه من الاختلال بالبيان‏.‏ وكانت العرب أيضا تسميه منصل الأسنة، روى البخاري عن أبي رجاء العطاردي - واسمه عمران بن ملحان وقيل عمران بن تيم - قال‏:‏ كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثوة من تراب ثم جئنا بالشاء فحلبنا عليه ثم طفنا به فإذا دخل شهر رجب قلنا منصل الأسنة، فلم ندع رمحا فيه حديدة ولا سهما فيه حديدة إلا نزعناها فألقيناه‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذلك الدين القيم‏}‏ أي الحساب الصحيح والعدد المستوفى‏.‏ وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏{‏ذلك الدين‏}‏ أي ذلك القضاء‏.‏ مقاتل‏:‏ الحق‏.‏ ابن عطية‏:‏ والأصوب عندي أن يكون الدين ههنا على أشهر وجوهه، أي ذلك الشرع والطاعة‏.‏ ‏}‏القيم‏}‏ أي القائم المستقيم، من قام يقوم‏.‏ بمنزلة سيد، من ساد يسود‏.‏ أصله قيوم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فلا تظلموا فيهن أنفسكم‏}‏ على قول ابن عباس راجع إلى جميع الشهور‏.‏ وعلى قول بعضهم إلى الأشهر الحرم خاصة، لأنه إليها أقرب ولها مزية في تعظيم الظلم، لقوله تعالى‏{‏فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج‏}‏البقرة‏:‏ 197‏]‏ لا أن الظلم في غير هذه الأيام جائز على ما نبينه‏.‏ ثم قيل‏:‏ في الظلم قولان‏:‏ أحدهما لا تظلموا فيهن أنفسكم بالقتال، ثم نسخ بإباحة القتال في جميع الشهور، قال قتادة وعطاء الخراساني والزهري وسفيان الثوري‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ حلف بالله عطاء بن أبي رباح أنه ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا فيها، وما نسخت‏.‏ والصحيح الأول، لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين وثقيفا بالطائف، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى في البقرة‏.‏ الثاني - لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب، لأن الله سبحانه إذا عظم شيئا من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيء كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح‏.‏ فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام‏.‏ ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال‏.‏ وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله تعالى‏{‏يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين‏}‏الأحزاب‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وقد اختلف العلماء من هذا المعنى فيمن قتل في الشهر الحرام خطأ، هل تغلظ عليه الدية أم لا، فقال الأوزاعي‏:‏ القتل في الشهر الحرام تغلظ فيه الدية فيما بلغنا وفي الحرم فتجعل دية وثلثا‏.‏ ويزاد في شبه العمد في أسنان الإبل‏.‏ قال الشافعي‏:‏ تغلظ الدية في النفس وفي الجراح في الشهر الحرام وفي البلد الحرام وذوي الرحم‏.‏ وروي عن القاسم بن محمد وسالم بن عبدالله وابن شهاب وأبان بن عثمان‏:‏ من قتل في الشهر الحرام أو في الحرم زيد على ديته مثل ثلثها‏.‏ وروي ذلك عن عثمان بن عفان أيضا‏.‏ وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما وابن أبي ليلى‏:‏ القتل في الحل والحرم سواء، وفي الشهر الحرام وغيره سواء، وهو قول جماعة من التابعين‏.‏ وهو الصحيح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سن الديات ولم يذكر فيها الحرم ولا الشهر الحرام‏.‏ وأجمعوا أن الكفارة على من قتل خطأ في الشهر الحرام وغيره سواء‏.‏ فالقياس أن تكون الدية كذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

خص الله تعالى الأربعة الأشهر الحرم بالذكر، ونهى عن الظلم فيها تشريفا لها وإن كان منهيا عنه في كل الزمان‏.‏ كما قال‏{‏فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج‏}‏البقرة‏:‏ 197‏]‏ على هذا أكثر أهل التأويل‏.‏ أي لا تظلموا في الأربعة الأشهر أنفسكم‏.‏ وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال‏{‏فلا تظلموا فيهن أنفسكم‏}‏ في الاثني عشر‏.‏ وروى قيس بن مسلم عن الحسن عن محمد بن الحنفية قال‏:‏ فيهن كلهن‏.‏ فإن قيل على القول الأول‏:‏ لم قال فيهن ولم يقل فيها‏؟‏ وذلك أن العرب يقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة‏:‏ هن وهؤلاء فإذا جاوزوا العشرة قالوا‏:‏ هي وهذه، إرادة أن تعرف تسمية القليل من الكثير‏.‏ وروي عن الكسائي أنه قال‏:‏ إني لأتعجب من فعل العرب هذا‏.‏ وكذلك يقولون فيما دون العشرة من الليالي‏:‏ خلون‏.‏ وفيما فوقها خلت‏.‏ لا يقال‏:‏ كيف جعل بعض الأزمنة أعظم حرمة من بعض، فإنا نقول‏:‏ للبارئ تعالى أن يفعل ما يشاء، ويخص بالفضيلة ما يشاء، ليس لعمله علة ولا عليه حجر، بل يفعل ما يريد بحكمته، وقد تظهر فيه الحكمة وقد تخفى‏.‏

قوله تعالى‏{‏قاتلوا‏}‏ أمر بالقتال‏.‏ و‏}‏كافة‏}‏ معناه جميعا، وهو مصدر في موضع الحال‏.‏ أي محيطين بهم ومجتمعين‏.‏ قال الزجاج‏:‏ مثل هذا من المصادر عافاه الله عافية وعاقبه عاقبة‏.‏ ولا يثنى ولا يجمع، وكذا عامة وخاصة‏.‏ قال بعض العلماء‏:‏ كان الغرض بهذه الآية قد توجه على الأعيان ثم نسخ ذلك وجعل فرض كفاية‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا الذي قال لم يعلم قط من شرع النبي صلى الله عليه وسلم أنه ألزم الأمة جميعا النفر، وإنما معنى هذه الآية الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة‏.‏ ثم قيدها بقول‏{‏كما يقاتلونكم كافة‏}‏ فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم‏.‏ والله أعلم‏.‏